بينما تتجه أنظار الداخل والخارج نحو التحوّلات السياسية والاقتصادية الجارية في سوريا ما بعد الأسد، يبرز ملف التسويات مع رجال الأعمال المقربين من النظام السابق كواحد من أكثر ملفات المرحلة الانتقالية تعقيدًا وإثارة للجدل.
نشرت مجلة “نيو لاينز” تحقيقًا جديدًا، ادعت من خلاله إجراء الحكومة السورية “تسويات اقتصادية خلف الكواليس” مع رموز النظام القديم مقابل تنازلات مالية ضخمة، وسط جدل محلي محتدم حول الشفافية والعدالة.
وتنقل المجلة عن “تحقيقات صحفية” نُشرت مؤخرًا، أبرزها تقرير لوكالة “رويترز”، عن شروع الحكومة السورية في تنفيذ سياسة إعادة هيكلة اقتصادية، عبر لجنة خاصة يُقال “إنها تتفاوض” مع رجال أعمال من عهد النظام البائد، من بينهم محمد حمشو وسامر فوز، من أجل استرجاع جزء كبير من الأصول التي راكموها خلال سنوات الحرب، مقابل تسويات مالية مشروطة.
وبحسب التقرير، فإن حمشو، أحد أبرز رموز شبكة الفساد التي كانت تحيط بنظام الأسد البائد، وافق على تسليم نحو 80% من أصوله، والتي تتجاوز قيمتها 640 مليون دولار، مقابل السماح له بالاحتفاظ بجزء محدود من ثروته ومواصلة العمل داخل البلاد، ما أثار موجة من الانتقادات، خاصة في أوساط منظمات المجتمع المدني التي تخشى من عودة “الدولة العميقة” بصيغة جديدة.
بدورها، نفت الحكومة السورية صحة هذه الادعاءات، وقال مسؤول رسمي رفيع للمجلة (لم تسمه)، إن الادعاء بأن الحكومة جمعت 1.5 مليار دولار من رجال الأعمال “غير دقيق”، مضيفًا بأنه “لم يتم التوصل إلى أي تسوية رسمية حتى الآن”، وأن هناك مفاوضات قائمة، وبعضها في مراحل متقدمة، لكن لم تُبرم أي اتفاقات.
وشدد المسؤول على أن هذه التسويات تقتصر على “الجرائم الاقتصادية والفساد المالي”، ولا تشمل أي عفو عن الجرائم الجسيمة أو انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة خلال الحرب، مؤكدًا أن تحقيق العدالة في تلك القضايا “مستمر”، ويخضع لإجراءات قانونية منفصلة، وأن أي تسويات مالية “لا تمنح الحصانة لمرتكبي الانتهاكات الجسيمة من الملاحقة”.
لجنة خاصة لإعادة هيكلة الاقتصاد
وواجهت الحكومة انتقادات وُجهت للجنة المكلفة بإعادة هيكلة الاقتصاد، خاصة ما ورد في تقارير إعلامية عن أن اللجنة تعمل في “الظل” وبقيادة شخصيات مثيرة للجدل.
ومن أبرز الأسماء التي ذُكرت في التحقيق هي “حازم الشرع” شقيق الرئيس، “وإبراهيم سكرية” رجل أعمال أسترالي خاضع للعقوبات، كما نسبت رويترز للجنة “نفوذًا كبيرًا” على قرارات البنك المركزي وملفات إعادة الإعمار، بما في ذلك تشكيل صندوق سيادي جديد.
لكن الحكومة نفت للمجلة “تلك المزاعم”، مؤكدةً أن اللجنة تم تشكيلها بموجب مرسوم رئاسي منشور “علنًا”، وأنها تخضع لرقابة مؤسسات الدولة الرسمية، وأن كل القرارات تصدر من الهيئات القانونية والتنفيذية، وليس من أفراد.
وقال المسؤول السوري للمجلة إن الحديث عن وجود شخصيات تملك صلاحيات فوق الدولة “لا أساس له”، مضيفًا أن اللجنة تضم “خبراء وممثلين عن وزارات ومؤسسات”، ولا أحد يمتلك سلطة على البنك المركزي أو على المال العام “خارج إطار القانون”.
في المقابل، عبّر ناشطون في مجال العدالة الانتقالية، تحدثت معهم المجلة، عن “مخاوف حقيقية” من أن تُستخدم هذه التسويات “كغطاء لإعادة تدوير النخب الاقتصادية التي ارتبطت بالفساد ودعمت آلة الحرب”.
وقال أحد الناشطين “لنيو لاينز” إن هناك من يروج لفكرة أن هذه التسويات “شكل من أشكال المحاسبة”، لكن في الواقع، قد تسمح لبعض المتورطين في جرائم خطيرة بالإفلات من العقاب، مضيفًا بأن التسويات يجب أن تكون “مكملة للمسار القضائي” لا بديلًا عنه.
تدافع الحكومة من ناحيتها عن “مقاربتها الواقعية”، مشيرةً إلى أن الكثير من الأصول المصادرة “تُشغّل آلاف العاملين”، وأن تفكيك هذه الشركات بشكل فوري قد “يضر بالاقتصاد الهش” حسبما صرّح المسؤول الحكومي للمجلة.
وأضاف بأن الهدف “ليس تدمير الشركات أو معاقبة من تبقى من الكفاءات”، بل ضمان استمرارية النشاط الاقتصادي مع استعادة الأموال المنهوبة بشكل قانوني، مؤكدًا نية الحكومة “خلق توازن بين العدالة والاستقرار”.
وأشار إلى أن معظم أصحاب الشركات “هم من بادروا بالاتصال بالحكومة لتسوية أوضاعهم”، بعد إخضاعهم لتحقيقات مالية دقيقة، تشمل مصدر الثروات “مخالفات الربح من الحرب”.
وتتزامن هذه التطورات مع تصاعد الأزمات في البلاد، من تفجر التوترات الأهلية في السويداء والساحل، إلى تحديات رفع العقوبات الدولية وجذب الاستثمارات، مرورًا بمحاولات فرض الاستقرار في مناطق خارجة عن السيطرة وإعادة بناء مؤسسات الدولة.
وتضيف المجلة بأن “مراقبين” يرون أن ما يجري “يعكس جوهر معضلة المرحلة الانتقالية في سوريا”، فالحكومة تجد نفسها ممزقة بين مطالب الشارع الداعي للمحاسبة الشفافة، وبين ضرورات إعادة تحريك العجلة الاقتصادية في بيئة دولية ومحلية مضطربة.
وفي ظل غياب نماذج عربية ناجحة يمكن لسوريا الاقتداء بها في مجال العدالة الانتقالية وإصلاح الاقتصاد، تبقى التجربة السورية قيد التشكل، محفوفة بالمخاطر السياسية والاجتماعية، ومفتوحة على جميع السيناريوهات.