يصادف 21 أيار 2025، الذكرى السادسة والعشرين لاغتيال رئيس الوزراء الأسبق محمود الزعبي أو لانتحاره بحسب الرواية الرسمية لنظام الأسد الأب حينئذ.
ولد الزعبي في خربة غزالة بمحافظة درعا 1935، وتخرج من كلية الزراعة من جامعة القاهرة، ثم عاد إلى سوريا، وتسلم عدة مناصب فيها، قبل أن يستلم رئاسة مجلس الشعب السوري لمدة سبع سنوات ورئاسة مجلس الوزراء 13 عامًا في عهد الرئيس حافظ الأسد.
في 21/ أيار 2000، وقبل وفاة حافظ الأسد بنحو أسبوعين فقط، أعلن النظام السوري البائد عبر وسائل إعلامه، آنذاك خبرًا صادمًا وهو انتحار الزعبي، الذي تم إقالته من رئاسة مجلس الوزراء في شهر أذار من العام نفسه، بثلاث رصاصات في الرأس، وهو ما فتح الأبواب واسعة لترجيح اغتياله بدل انتحاره.
ثلاث رصاصات
يُعلق القاضي الجنائي المنشق عن نظام بشار الأسد، حسين حمادة على رواية انتحار الزعبي بأن المنتحر في منطقة الرأس لا يستطيع سوى إطلاق رصاصة واحدة.
ويؤكد، في مقابلة مع قناة الجزيرة، وهو الذي عاصر الكثير من الجنايات لأكثر من 30 عامًًا في سوريا قبل الانشقاق، أن الأخطاء الكبيرة في الإجراءات القانونية التي أحاطت في قضية الزعبي تشير إلى أنها عملية اغتيال وليس انتحار.
الانتحار بين رواية “خدام وجعارة”
في مذكرات عبد الحليم خدام، التي نشرتها مجلة المجلة في شباط 2024، أي بعد وفاته بنحو 4 سنوات، يقول “قبل الانتحار بثلاثة أيام، دعانا الرئيس- أي حافظ- إلى منزله، أنا والأمين العام المساعد للقيادة القومية لحزب البعث عبد الله الأحمر، والأمين القطري المساعد للحزب سليمان قداح، ورئيس مجلس الشعب عبد القادر قدورة، ووزير الدفاع مصطفى طلاس، وكانت علامات التعب بادية على وجهه، وبدأ الحديث قائلًا: لقد خانني محمود الزعبي؛ حققوا معه وحاسبوه”.
وبحسب ما نقلت المجلة عن خدام، الذي كان نائبًا للرئيس الأب وللابن بشار حتى عام 2005، حيث خرج من سوريا إلى فرنسا وأعلن انشقاقه عن نظام الابن فإن الأسد الأب التفت إليه في ذلك اللقاء بعد أن طلب بمحاسبة الزعبي وقال له ” كل ماكنت تقوله عنه وعن حكومته تبين لي أنه صحيح”.
وكان خدام وفق مذكراته التي نشرتها المجلة يتهم الزعبي بالفساد ويحمله انهيار الاقتصاد السوري حينئذ، وكان كلما يشكوه لحافظ الأسد يرد عليه بأن الزعبي جيد وليس كما يقول إلى أن جاء ذلك اللقاء وغير رأيه فيه وطالبهم بمحاسبته.
ويضيف خدام أن الأسد “لم يطلعنا على الموضوع الذي خانه فيه الزعبي، لكن على الفور رد قداح على طلب الأسد بالقول سنجتمع بالقيادة القطرية ونفصله”.
وفي اليوم الثاني دعانا قداح للاجتماع في القيادة القطرية لحزب البعث لـ “أمر مهم”. وحضر كل الأعضاء ومنهم الزعبي فطلب منه قداح الخروج من قاعة الاجتماع لأن الموضوع يتعلق به، فبدأ بالخروج. كان جالسًا إلى جانبي وسألني: “ما الأمر؟”. فقلت له: “الموضوع يتعلق بك، وبعد انتهاء الجلسة ستدعى إلى الاجتماع وسيبلغك (قداح) قرار القيادة وأسبابه”.
بعد خروج الزعبي عرض قداح اللقاء الذي جرى مع الرئيس الأسد، وأن الأمر له علاقة بالفساد المتهم فيه المذكور، واقترح طرده من الحزب وإحالته إلى التحقيق. وافقت القيادة القطرية على رفع اقتراح الطرد إلى القيادة القومية لأنها صاحبة الاختصاص وفق النظام الداخلي، وبعد أن أنهينا الاجتماع -يقول خدام- تم استدعاء الزعبي وأبلغه قداح القرار، “فأصيب بالذهول وأخذ يردد: أنا ماذا فعلت؟”.
ووفق خدام فإنه رد على سؤال الزعبي بـ “أنت مدعو للتحقيق والمحقق سيطلعك على التهم. دافع عن نفسك وإذا كانت تلك الوقائع متعلقة بغيرك كن جريئًا واحكِ ما لديك من معلومات.
لكن الزعبي قال لخدام: “إذا دعوني إلى التحقيق سأنتحر”. فأجابه لماذا الانتحار إذا كنت بريئًا؟ ولم يأخذ كلامه مأخذ الجد حينها.
وتابع خدام : “اتصل بي الزعبي، وقال: أرجوك يا أبو جمال أن تبلغ الرئيس- أي حافظ- أني سأنتحر إذا أحلت على التحقيق. فكررت كلامي الذي جرى بيني وبينه بعد اجتماع قيادة حزب البعث، فكرر كلامه. فقلت له: إذا انتحرت ولم تشاهد غيرك ميتا ارجع”.
وفي روايته يؤكد خدام أيضًا أن العماد حكمت الشهابي، رئيس أركان الجيش، حينئذ أبلغه أن الزعبي قال له أيضًا إذا دعيت للتحقيق فسأنتحر.
وبعدها طُرد الزعبي من بيته الذي كان ملكًا لرئاسة الجمهورية في المزة بدمشق وانتقل إلى بيته في دمر، وسُحبت السيارات من أمام منزله، ويستكمل خدام روايته بأنه في يوم “الانتحار” جاء قائد شرطة دمشق ومعه ضابطان لأخذ الزعبي إلى التحقيق، وعندما علم بالأمر صعد إلى الطابق الثاني في منزله وأطلق النار على رأسه وتوفي”.
وعن كيف “خان الزعبي حافظ الأسد” يروي خدام، “بعد فترة وجيزة علمت أن الزعبي زور توقيع الرئيس حافظ وسحب من احتياطي الدولة مبلغ خمسة وستين مليون دولار، وكان احتياطي الدولة مسجلًا باسم الرئيس حافظ الأسد، ولم يكن يخطر ببال أحد أن يكون الاحتياطي- وكانت قيمته آنذاك 12مليار دولار- موضوعًا بالاسم الشخصي لرئيس الدولة”.
يتابع: “تم اكتشاف جريمة التزوير بعد أن وصلت وثيقة إلى الرئيس حافظ تقول إنه سُحب مبلغًا من المبلغ المودع باسمه في الخارج قيمته خمسة وستون مليون دولار، فاستغرب الأمر وطلب كتاب التحويل المرسل إلى البنك حيث الوديعة. وبعد أيام وصلت صورة الطلب، ولدى تدقيق التوقيع تبين أنه مزور.
وعندما سأل حافظ البنك عن الجهة التي تم التحويل لها تبين أنها عائدة لمحمود الزعبي. وهنا ثارت ثائرة الرئيس حافظ، فطلب من أحد رؤساء أجهزة الأمن استدعاء الزعبي وإنذاره بإعادة المبلغ وإذا لم يفعل سيعدم، وتم بالفعل إعادة المبلغ إلى المصرف، وفق خدام.
العبارة القاتلة
ولكن وبحسب رواية خدام طالما أن الزعبي أعاد المبلغ للأسد فلماذا انتحر الزعبي، ولماذا التحقيق كله طالما أن القضية قد حُلت؟، وهنا يقدم الصحفي بسام جعارة الذي عمل بالمكتب الصحفي لرئاسة مجلس الوزراء بين عامي 1990 و 2000، رواية مختلفة عن موضوع “الخيانة” أو قضية الأموال التي أفضت للانتحار أوالنحر.
يقول جعارة في مقابلة مصورة مع قناة الجزيرة “إن ما لا يغفر في سوريا هو كشف مفاصل النفوذ المالي العائلي، وفضلًا عما يقال إنها كراهية شخصية من بشار الأسد للزعبي فإن الأخير اتهم الزعبي، بتهمة تقصم الظهر ألا وهي تسريب خبر استرجاع أموال باسل الأسد من النمسا والمقدرة بـ13.2 مليار دولار، في حين كانت ميزانية سوريا كلها 3.4 مليارات دولار”.
أما العبارة القاتلة -بحسب جعارة- فقد جاءت بعد تعيين محمد مصطفى ميرو رئيسًا لمجلس لوزراء خلفا للزعبي بفترة قصيرة، إذ اكتشف أن خمسين مليون دولار مسحوبة من مكتب تسويق النفط فأبلغ بشار الأسد الذي طلب منه الاستفسار من الزعبي الخاضع للإقامة الجبرية.
وعند توجيه السؤال للزعبي من قبل ميرو قال له “اسأل بشار فهو الذي يعرف”، وهي العبارة التي كانت الدافع المباشر للرصاصة القاتلة التي اخترقت رأس محمود الزعبي، وفق جعارة.
رواية الابن: قتل وتعذيب
قبل أشهر فقط وبعد سقوط بشار الأسد خرج ابن محمود الزعبي الدكتور مفلح الزعبي في لقاء تلفزيوني ليقول: “أبي قتل ولم ينتحر، وكنت أنتظر سقوط بشار الأسد المجرم كل هذه السنين لأقول الحقيقة”.
وتتقاطع رواية الابن مع ما رواه جعارة عن مسألة أموال النفط، حيث قال إن بشار الأسد وقبل وفاة الأب الذي كان غير متزن صحيًا في آخر عام من وفاته، قد أصبح يتدخل بكل شيء والأخص، موضوع النفط وكان يضغط على والده للهيمنة على مكتب تسويق النفط الذي كان تابعًا لرئاسة الوزراء.
وبحسب الابن فإن قرار القتل جاء من بشار وليس من حافظ، لأن الأب الزعبي لم يسمح لبشار وأولاد مخلوف أن يستحوذوا على الدولة وعلى قطاع النفط آنذاك على حد تعبيره.
وقبل يومين من وفاة الزعبي يقول الدكتور مفلح لقد جاءهم ضابطًا يدعى سليمان الرجب وكان يخدم في القسم الأمني الخاص بمجلس الوزراء، وطلب من والده الزعبي الاختفاء والسفر خارج البلاد لأن هناك مخططًا لتصفيته، غير أن الزعبي الأب قرر عدم المغادرة لأنه ليس عليه شيء يخاف منه، على حد رواية ابنه مفلح.
وفي يوم الوفاة يقول مفلح -لبرنامج ما تبقى على تلفزيون سوريا- إنه كان يتناول الفطور مع أبيه في بيتهم في دمر، وقد جاءهم هاتف من شخص عرف نفسه لأبيه بأنه نقيب من الجنائية وإنه يريد الدكتور مفلح لمسألة تتعلق بتوقيع سريع لأعمال بناء تتعلق في بيته الذي في منطقة الجسر الأبيض في دمشق وأنه لن يؤخره في العودة.
يقول مفلح: ذهبت فعلًا وعندما وصلت اعتقلوني بشكل عنيف وسمعت الضابط الذي كان عميدًا في الأمن وليس نقيبًا كما ادعى على الهاتف يقول: عصفور واحد صار في القفص وعصفور اثنين صار معي، وعصفور 1 لا يجوز رؤية عصفور2، أي أنه هو عصفور واحد وأخاه همام عصفور 2″.
وبعدها يرى أخاه فعلًا في الزنزانة في الأمن الجنائي بباب مصلى بدمشق، وقد سبق اعتقاله في الزنانة وبعدها طلب التكلم مع والده من عناصر الشرطة، ولكنهم قالوا له إنه في التحقيق، ثم أخبروه بأنه انتحر بأن أطلق على نفسه رصاصتين في منطقة القلب.
وبعد الخروج من الزنزانة وذهابه مع أخيه همام لاستلام جثة أبيهما من مشفى المواساة بدمشق، وعند وصولهما بالجثة إلى مسقط رأس الأب في خربة غزالة سأل أخوه همام ما الذي جرى؟، فقال، لقد جاؤوا -أي الأمن- إلى البيت في دمر وأمسكوه هو وأمه وأخته وبدؤوا بالصراخ: “اقطعوا الكهرباء والهاتف”، ثم صعدوا إلى الطابق الثاني، حيث الأب، وهنا سمع صوت إطلاق نار وأخذوا الابن إلى الزنزانة حيث التقى بأخيه.
ويختم الابن مفلح روايته بالقول إنه اطلع على جثة والده فوجد أن مقتول برصاص في الرأس وليس في القلب كما أخبروه في جنائية باب مصلى، وبأن هناك أثار جروح على جسد الأب، في إشارة إلى أن والده تعرض للضرب والتعذيب قبل أن يطلقوا عليه النار ويغتالوه.
وتبقى قصة نهاية الزعبي شاهدة على مدى فداحة إجرام نظام الأسدين في سوريا، (حافظ وابنه بشار)، الذي أنهى حياة رجل خدمه لأكثر من 20 عامًا، وكان يُنفذ تقريبًا كل ما يطلبه منه الأسد الأب -بحسب كل الروايات-، بأسلوب وحشي، فليس من المستغرب أن يكون إجرامه مع باقي الشعب السوري أضعافًا مضاعفة.