نظّم ناشطون في مدينة حلب وقفة لإحياء الذكرى التاسعة لمجزرة مشفى القدس في حي السكري بحلب، والتي وقعت في السابع والعشرين من نيسان/أبريل 2016، حيث تعرض المشفى لقصف من الطائرات الروسية راح ضحيته أكثر من خمسين شهيداً من السوريين، بينهم عاملين في المشفى، منهم الطبيب محمد وسيم معاذ آخر طبيب أطفال متبقي في الجزء الذي كان يسيطر عليه الثوار آنذاك، وبين الشهداء أطفال رضع وسيدات كن في قسم الولادات، وكبار في السن من الجنسين.
ولا يزال مشهد الطفل وهو يبكي أخاه الذي قضى نتيجة القصف عالقاً في الأذهان برغم مرور 9 سنوات على المذبحة المروعة التي شهدها المشفى، والذي أصبح أيقونة طبية تقدم الخدمات في أقسى الظروف التي عرفتها حلب في ذلك الوقت، في المشهد المروع كان الطفل يصرخ بأعلى صوته باكياً “هادا حبيبي أخوي.. ان شاء الله بموت أنا ولا انت”.
يقول عبد السلام اسماعيل (أحد المنظمين للوقفة) أن “نشطاء حلب للمرة الأولى بعد تسع سنوات يستطيعون إحياء ذكرى الشهداء الذين ضحوا داخل المشفى لأول مرة بعد سقوط النظام وعودة الأهالي إلى المدينة”. ويضيف الناشط في حديثٍ خاص لموقع “سوريا الجديدة: “المشاعر كانت مختلطة، فقد حققنا هدف الشهداء بإسقاط النظام، لكن دون وجود جميع الشهداء الذين خسرناهم، منهم الطبيب وسيم معاذ، آخر الأطباء المتواجدين في حلب والذي كان يقضي يومه كاملاً في المشفى ليقدم كل ما يستطيع”.
وبحسب اسماعيل، فإن المشفى كان أحد المراكز الصحية القليلة المتبقية في مناطق حلب الشرقية التي كانت تحت سيطرة الثوار، حيث تعمد “النظام البائد استهداف المراكز الحيوية والصحية في حلب للضغط على الثوار وإخراجهم من المنطقة، ونتيجة للهجمات الهمجية استطاع تحقيق ذلك، لكننا اليوم عدنا إلى حلب منتصرين” حسبما قال.
واستهدفت الطائرات الحربية مبنى المشفى بغارتين متتاليتين، مما أدى لأضرار كبيرة في المشفى وإخراجه عن الخدمة نهائياً، بعد حملة جوية قادتها الطائرات على أحياء مدينة حلب، استهدفت وقتها أحياء المرجة والحرابلة والحيدرية والبيّاضة والراشدين وكرم الطرّاب والميسّر وبعيدين وباب الحديد والصالحين، أدت إلى سقوط عدد من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين.
ونشرت منظمة أطباء بلا حدود، التي كانت تدعم المشفى، بياناً أدانت فيه استهداف المشفى، حيث قالت رئيسة بعثة أطباء بلا حدود في سوريا موسكيلدا زانداكا إن “منظمة أطباء بلا حدود تدين بأشدّ العبارات الاستهداف المشين لمرفق طبي آخر في سوريا. فقد تسبّب الهجوم الفتّاك بتدمير مستشفى أساسي في حلب ومركز الإحالة الرئيسي لطب الأطفال في المنطقة.”
مشاهد من المجزرة
يستعيد نبيل الشيخ عمر، أحد كوادر التمريض في مشفى القدس بحلب، ذكرياته عن الساعات التي قضاها ذلك اليوم بين أزيز الطائرات التي كانت – تقريباً – لا تفارق الأجواء، وأصوات الانفجارات التي سمع صداها كل من في مدينة حلب، حسب قوله.
يجلس نبيل قبل لحظات من استهداف المشفى مع زملاءه على مائدة العشاء البسيطة، وفور انتهاءهم انفض زملاءه إلى عملهم وهو إلى النوم بمسكنه الذي يبعد أمتار قليلة عن المشفى.
يقول نبيل في حديثٍ خاص لموقع سوريا الجديدة: “استيقظت على أصوات الغارة التي استهدفت المشفى، وركضت مسرعاً إلى مكان القصف لأجد النار تلتهم السيارات المتواجدة إلى المشفى، إضافةً إلى شخص يحترق أمام عيني وأنا لا أستطيع فعل شيء لإنقاذه”.
ويتابع: “وصلت إحدى سيارات الدفاع المدني لتفقد موقع القصف، وقد حملنا خمسة أطفال مصابين إلى مشفى الزرزور لإسعافهم، بعد أن جرى التعميم عبر أجهزت اللاسلكي بضرورة إرسال سيارات الإسعاف والمنقذين إلى المشفى”.
للوهلة الأولى، ظن نبيل أن جميع من في المشفى قتل بسبب الدمار الكبير الذي حصل في المشفى، بعد أن تدمر أجزاء واسعة منه وأغلق المدخل الرئيسي له ومدخل الإسعاف بفعل الركام الناتج عن القصف.
لمح الممرض “بصيص ضوء” قادم من بين الركام، وهو مكان قسم الإسعاف في المشفى، ليعثر على أحد حرس المشفى، الشخص الذي كانت ابتسامته لا تفارقه أبداً، حتى عند وفاته.
بعد جولات سريعة أجراها نبيل لما تبقى من أقسام المشفى للاطمئنان على الكوادر والبحث عن ناجين وإخراج البعض منهم، ظن نبيل أن صديقه الطبيب محمد وسيم معاذ خارج المشفى بعد أن أخبروه أن الطبيب أمر بإخلاء قسم الحواضن وإرسال الممرضات إلى بيوتهن خوفاً من الاستهداف، ليتفاجأ بعض لحظات بإرسال صورته إلى مجموعات الواتساب، وقد قضى نحبه.
يقول: “كانت لحظة الانهيار التي لم أتمالك نفسي وقتها.. جلست على درج المدخل مصدوماً”، وقد اختلطت مشاعره بين الحزن على زملاءه الموتى، والمسؤولية بإخراج من تبقى وإسعافهم، خصوصاً بعد رؤيته لشخص يصرخ أمام جثة ولده تحت الأنقاض “هون ابني.. هون العريس طالعولي ياه”.
وقت تركت تلك الحادثة أثراً عميقاً في نفسه، فقد كان يعتبر المشفى “كعائلته.. عائلة الثورة” خصوصاً أن غالبية العاملين كانوا يتخذون من المشفى كمكان سكن لهم، بعد تهجيرهم أو تعرض بيوتهم للقصف، أو نتيجة النقص الحاد في الكوادر الطبية، كحال طبيب الأطفال وسيم معاز.
وقد تعاون نبيل مع من تبقى من زملاءه وفرق الإنقاذ والنشطاء لإعادة افتتاح المشفى، وجرى ذلك خلال 15 يوماً بعد الحادثة.
ويختتم حديثه، بأن الجرائم التي ارتكبها النظام البائد وحلفاءه تركت جرحاً لا يندمل، ويجب على من تبقى الاستمرار في المطالبة “بتحصيل حقوقهم ومحاسبة مرتكبي كل تلك المجازر، وأن عمل الكوادر الطبية والإنسانية كان جزءاً لا يتجزأ من أحداث الثورة وسنداً داعماً لها”.
استهداف منظم
وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان استهداف القوات الروسية ما لايقل عن 59 مركزاً طبياً في سوريا خلال الفترة مابين سبتمبر/أيلول 2015 وحتى آب/أغسطس 2016، وقت تصدرت محافظتي حلب وادلب حصيلة الاستهدافات بنسبة 84% من الإجمالي.
وبحسب المكتبة الطبية الأمريكية PMC، فإن 122 مركزاً صحياً في محافظة حلب قد تعرض للاستهداف خلال عام 2016، منها 81 هجمة على مدينة حلب وحدها.
وقد تم استهداف 94 منشأة صحية في مختلف أنحاء سوريا خلال العام نفسه، فيما تعرضت 33 منشأة للهجوم أكثر من مرة، وقد خلف ذلك مقتل 112 من العاملين في القطاع الصحي و185 مريض، بالإضافة إلى إصابة 433 بجروح مختلفة منهم 94 من الكوادر الطبية و339 من المرضى في أربع محافظات سورية، بما في ذلك حلب، خلال عام 2016 بحسب PMC.
ووصل عدد القتلى من الكوادر الطبية، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان خلال الفترة ما بين 2011 و2025 إلى 921 شخصاً، 662 منهم قتلوا على يد النظام البائد وحلفاؤه، بينما قتل الباقون على يد أطراف أخرى.
وبالإضافة إلى القتل، تعرض العديد من الكوادر الطبية للاعتقال والإخفاء القسري، حيث لايزال مصير العديد منهم مجهولاً.
