لا يخفى على من يزور مخيمات الشمال السوري في هذه الأيام مشهد الخيام المهجورة أو الجدران المتداعية. لكنها هذه المرة ليست نتيجة العوامل الجوية أو الكوارث الطبيعية كما اعتادها السوريون لسنوات، بل نتيجة قرار أصحابها مغادرة المخيمات، أملًا بالعودة إلى مناطقهم الأصلية وبناء منازلهم التي دمرتها الحرب.
مشهد تفكيك الخيام بات رمزًا جديدًا لمرحلة مختلفة، يتداخل فيها الحنين إلى الأرض مع واقع صعب يفرض تحديات معيشية وأمنية لا تقل قسوة عن سنوات النزوح.
من بين هؤلاء العائدين، كان رضوان، 30 عامًا، يحمل سرير طفلته الصغيرة استعدادًا لمغادرة المخيم، بعد أن ألقى نظرة سريعة على ما تبقى من خيمته، ومن ثم همّ بالصعود إلى سيارته برفقة زوجته، وطفلتيه، ووالدته، وأخيه الصغير.
يقول رضوان: “الحمد لله الذي حلّ علينا هذا اليوم، وتمكّنا من العودة إلى منطقتنا، تل رفعت بريف حلب الشمالي، كنت أظن أنني سأموت وأُدفن ولن أرى هذا اليوم. كنا نمزح بحسرة فيما بيننا بأنه ربما أحفادنا سيعودون، أما نحن فمن سابع المستحيلات”.
ورغم أن منزله مدمّر جزئيًا، قرر رضوان العودة إليه وصيانته بما توفر له من إمكانيات، مرددًا: “حتى لو اضطريت ارجع انصب خيمة فوق الأنقاض بدي ارجع، الأرض بتشتاق لولادها”.
بين قرار العودة وصعوبة التنفيذ
مع تزايد أعداد العائدين، تبرز تحديات كبيرة تحول دون تحقيق استقرار فعلي لهم في مناطقهم الأصلية.
في أحدث تقرير صادر عن المنظمة الدولية للهجرة، أظهر أن نقص الفرص الاقتصادية والخدمات الأساسية يُعد من أبرز العوائق أمام إعادة الاندماج المجتمعي للنازحين العائدين، وبحسب التقرير، تعاني كثير من المناطق من نقص حاد في الكهرباء والمياه النظيفة والرعاية الصحية، فضلًا عن عقبات قانونية تتعلق بعدم اكتمال الوثائق المدنية، ما يعيق وصول العائدين إلى حقوقهم في السكن والخدمات.
وأشار التقرير إلى أن الأنشطة الاقتصادية، لاسيما الزراعية، لم تتعافَ بعد، كما أن وتيرة إعادة إعمار المنازل لا تزال بطيئة. وذكرت مديرة المنظمة، إيمي بوب، أن “السوريين أظهروا قدرًا من الصمود والمرونة، لكنهم بحاجة إلى دعم ملموس لإعادة بناء حياتهم”. وأضافت أن دعم العودة الآمنة والكريمة ضروري لمستقبل البلاد.
ووفقًا لمصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة، فقد انخفض عدد النازحين داخليًا في نيسان/أبريل 2025 إلى نحو 6.6 مليون، مقارنة بـ6.7 مليون في آذار/مارس، بينما بلغ عدد العائدين منذ مطلع 2024 أكثر من 1.3 مليون نازح داخلي، وقرابة 730 ألف قادم من الخارج.
لكنّ تجارب العائدين والنازحين المتبقين تتفاوت بين أمل العودة المنتظر، والتحدي الذي ينتظرهم عند حسم وتنفيذ قرار العودة.
عبد الستار الهويدي، نازح في مخيم يازيباخ بريف حلب الشمالي منذ أكثر من 10 سنوات، لا يستطيع العودة إلى قريته دير حافر (ريف حلب الشرقي) الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية. ويقول: “حتى لو أردنا العودة، لا نستطيع، فبيوتنا مدمرة بالكامل، ولا توجد خدمات في المخيم تدفعنا للبقاء”.
ويؤكد أن المنظمات الإنسانية أوقفت دعمها تدريجيًا منذ “التحرير”، ما أدى لانقطاع الخبز والماء والكهرباء، وأعمال التنظيف، معتبرًا أن ذلك يهدف إلى “دفع العائلات لمغادرة المخيم”.
ويضيف: “هذا الواقع حطّم حلمي بالتحرير والعودة، وأتمنى لو لم يحدث ذلك، لكنني سعيد لجيراني الذين تمكنوا من العودة”.
أما عبد الله، من مدينة السفيرة، الواقعة جنوب شرقي حلب، الذي يستعد هو الآخر لمغادرة المخيم؛ رغم صعوبة الأوضاع المعيشية في الخارج، فيقول: “خرجت من مدينتي شابًا أعزب، وأعود اليوم رب أسرة ولا نملك منازل للسكن، والمنطقة تعاني من دمار واسع”.
وبسبب ارتفاع أسعار الأراضي، اضطر عبد الله لاستئجار منزل في اعزاز، معتبرًا أن انعدام الخدمات داخل المخيم ومطالبة مالك الأرض به، جعلا البقاء مستحيلًا.
ويختم عبد الله بالقول إن “التحرير” مكّنه من التحرك بحرية داخل المناطق التي كانت مغلقة سابقًا، لكنه في ذات الوقت يشعر بـ “الخذلان” لعدم قدرته على العودة إلى مدينته.
واقع معقّد وحلول بعيدة
في زيارته الأولى إلى إدلب يوم 15 فبراير/شباط الماضي، تفقد الرئيس السوري أحمد الشرع مخيمات النازحين، وأكد خلال لقاءاته مع الأهالي التزام الحكومة “بتحسين الأوضاع الإنسانية في إدلب، والعمل على تأهيل البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية ضمن مساعي الحكومة لإعادة الاستقرار وتقديم حلول دائمة للأزمة الإنسانية”.
لكن الواقع يبدو معقدًا بشكلٍ كبير، كما أشار التقرير، الذي نشره صندوق النقد الدولي في 10 حزيران/يونيو الحالي، إلى أن سوريا تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، بما في ذلك انخفاض الناتج المحلي وتراجع الدخل الحقيقي، وارتفاع معدلات الفقر.
ويضيف التقرير، بأن المؤسسات الحكومية “ضعيفة”، وتقديم الخدمات الأساسية أصبح “متعثرًا”، مضيفًا إلى أن “أجزاء كبيرة من البنية التحتية مدمرة”.
ويؤكد التقرير على ضرورة تبني سياسات اقتصادية سليمة، بما في ذلك تحديث النظام الضريبي، وتعزيز الإدارة المالية العامة، واستعادة الثقة في العملة المحلية.
أما مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (OCHA)، أشار في تقريره الصادر بشهر آذار/مارس الماضي، إلى أن سوريا تواجه أزمة إنسانية “معقدة”، حيث يحتاج 16.5 مليون شخص إلى المساعدة، مؤكدًا على ضرورة توفير “التمويل العاجل لتلبية الاحتياجات الإنسانية”، بما في ذلك الغذاء، الرعاية الصحية، والتعليم، والمأوى.
ورغم عمليات الإخلاء التدريجي من بعض المخيمات، ما تزال آلاف العائلات تقيم فيها، وسط غياب البدائل المأمونة وندرة الدعم المادي. فالكثير منهم يواجهون مزيجًا من العقبات، مثل المنازل المدمّرة، والأوضاع الأمنية المعقدة، وغياب البنية التحتية، والخوف الدائم من مخلفات الحرب.
يرى عبدالله، النازح في مخيم يازيباخ، أن حل أزمة المخيمات يكمن في تقديم “دعم رسمي لإعادة الإعمار أو تأمين مساكن بديلة”، خاصة لأولئك الذين لا يستطيعون العودة لأسباب أمنية. ويروي حادثة أحد أقاربه الذي تم اعتقاله من قبل قوات سوريا الديمقراطية بعد رفع علم “الثورة” فوق منزله.
تُجمع شهادات العائدين والنازحين على أن العودة ليست نهاية الرحلة، بل بداية لتحديات جديدة، لا يمكن تجاوزها دون التزام جاد من الجهات المحلية والدولية لدعم الاستقرار وإعادة الإعمار، بما يضمن عودة كريمة وآمنة ومستدامة لملايين السوريين.